الانتخابات تُباع في أسواق الفقراء.. “المال الأسود” يشتري الإرادة ويصنع النتائج في العراق
موصل تايم
تتسع رقعة الجدل السياسي في العراق كلما اقترب موعد الانتخابات البرلمانية، لكن ما يطفو على السطح هذه المرة لا يتعلق ببرامج انتخابية أو تنافس سياسي مشروع، بل بوسائل غير مشروعة بدأت تتسلل إلى الساحة الانتخابية في صورة مالٍ أسودٍ موجهٍ نحو الفقراء.
تُظهر المؤشرات الأولية أن المال السياسي لم يعد مجرد عنصر دعم انتخابي، بل تحوّل إلى أداة تغيير قناعات قسرية في الأحياء الفقيرة والعشوائيات، ما يعيد تعريف فكرة المشاركة الشعبية بوصفها خضوعًا اقتصاديًا أكثر من كونها اختيارًا حرًا. بحسب قراءات سياسية مؤسسية، فإن تزايد ظاهرة شراء الأصوات وتبديل الولاءات بالمال يُعيد النقاش حول شرعية الانتخابات نفسها، ويطرح سؤالًا أعمق عن معنى “الديمقراطية” في نظامٍ تُدار فيه إرادة الناخب بوسائل مالية فاسدة.
تحذيرات النائب السابق أيوب الربيعي جاءت لتسلّط الضوء على هذه الظاهرة المتصاعدة، إذ قال في حديثٍ لـ”موصل تايم”، إن “المشاركة الفاعلة في الانتخابات تمثل بداية التغيير الحقيقي وإبعاد الوجوه المتهمة بالفساد، لكن ما نراه حالياً يثير كثيراً من علامات الاستفهام في ظل الإنفاق غير المسبوق للمال السياسي الأسود من قبل بعض القوى السياسية، خصوصاً في المناطق الفقيرة، بهدف شراء الولاءات وتغيير قناعات الناخبين”.
يفسّر خبراء في الشأن السياسي أن ما سمّاه الربيعي بـ”المال السياسي الأسود” لا يُستخدم هنا لدعم الحملات، بل لتطويع الإرادة الشعبية وتوجيه التصويت نحو أطراف محددة، عبر استغلال هشاشة البيئة الاجتماعية والفقر المتزايد. تفيد تقديرات بحثية بأن هذه الممارسات تشكل خرقًا واضحًا لمبدأ تكافؤ الفرص المنصوص عليه في قانون الانتخابات، وتؤسس لمرحلة جديدة من التزييف المقنن تحت غطاء الشرعية، ما يهدد ثقة المواطن بجدوى المشاركة من الأساس.
يشير الربيعي في تصريحه إلى أن “هذه الإغراءات المالية تُعد مخالفة صريحة لتعليمات المفوضية العليا المستقلة للانتخابات، ويجب أن يكون للمفوضية موقف حازم من خلال اتخاذ الإجراءات القانونية اللازمة وكشف الجهات التي تمول هذه العمليات غير المشروعة”.
توضح قراءات قانونية متخصصة أن الإطار التشريعي العراقي يُجرّم أي محاولة لشراء الأصوات أو التأثير المالي المباشر في العملية الانتخابية، إلا أن التطبيق ظلّ ضعيفًا ومتقطعًا بسبب غياب آليات رقابية فاعلة، وضعف التنسيق بين الأجهزة الأمنية واللجان القضائية الانتخابية.
يؤكد خبراء القانون الدستوري أن سكوت المفوضية أمام هذه الممارسات يفرغ القانون من مضمونه، ويجعلها شريكًا غير مباشر في تكريس الفساد الانتخابي.
تذهب تحليلات مقارنة إلى أن دولًا عدة عانت من ظاهرة مشابهة — كلبنان ونيجيريا — اضطرت إلى تشريع قوانين صارمة لملاحقة “المال الانتخابي” بوصفه جريمة انتخابية مستقلة، لأنّ تأثيره في المسار الديمقراطي لا يقل خطورة عن التزوير الورقي.
يضيف الربيعي أن “هذه الممارسات تعكس حالة خوف لدى بعض القوى من الخسارة في الانتخابات المقبلة، وتحاول من خلال الأموال التي جنتها بصفقات فاسدة التأثير على إرادة الناخبين”. تؤكد تحليلات بحثية أن المال الانتخابي يُستخدم عادة في لحظات الضعف السياسي، حين تفقد القوى المتنفذة ثقتها بقاعدتها الجماهيرية، فتسعى إلى تعويض الفقدان المالي بالشراء المباشر للأصوات.
تُظهر بيانات ميدانية غير رسمية أن بعض الكيانات تنفق ما يعادل عشرات المليارات من الدنانير في أحياء محددة قبيل الاقتراع، وهو إنفاق لا يمكن فصله عن منظومة الفساد الإداري التي تغذي المشهد السياسي منذ 2003. وفق مقاربات سياسية حديثة، فإن توظيف الأموال المكتسبة من صفقات فاسدة في التأثير الانتخابي يحوّل العملية الديمقراطية إلى دورة مغلقة للفساد، حيث يُعاد إنتاج النخب ذاتها بأموالها ذاتها، في دائرةٍ تُقصي التغيير وتُبقي النظام في حالة تكلس مستمر.
يختم الربيعي بالقول إن “الردع القانوني ضرورة لبناء الثقة العامة بالعملية الانتخابية”. تؤكد قراءات مؤسساتية أن الردع لا يتحقق بالقوانين وحدها، بل بوجود إرادة تنفيذية مستقلة، قادرة على تجاوز الضغوط الحزبية وتطبيق العقوبات دون تمييز. لكن الواقع يشير إلى أن المفوضية والسلطات القضائية تواجهان اختبار نزاهة صعبًا في ظل نفوذ سياسي متداخل داخل كل مفصل من مفاصل الدولة، ما يجعل أي تحقيق في “المال الأسود” قضية سياسية قبل أن تكون قانونية. تذهب ملاحظات أكاديمية إلى أن استمرار هذا النمط من الإنفاق الانتخابي يعني تعطيل مبدأ التداول السلمي للسلطة، وتحويل الانتخابات إلى طقس شكليّ لا ينتج تمثيلًا حقيقيًا.
تؤكد القراءة المتكاملة أن المال الأسود لم يعد مجرد مخالفة انتخابية بل أصبح آلية سياسية تُدار بها الانتخابات في العراق، وأن ضعف الردع القانوني جعلها وسيلة مشروعة تحت غطاء ديمقراطي زائف. إن ما يجري في الأحياء الفقيرة والعشوائيات اليوم لا يمثل دعاية انتخابية، بل عقوبة جماعية بغطاء إداري تمارسها السلطة عبر تساهلها مع المال الفاسد. فحين تعجز الدولة عن ضبط التمويل، وتسمح بشراء الإرادة العامة، فإنها تعلن صراحةً أن المواطن لم يعد شريكًا في التغيير بل وسيلةً لتجديد الفشل. وما لم تتحول الرقابة الانتخابية إلى سلطة فعلية تمتلك الشجاعة لمواجهة هذه الممارسات، فإن كل حديث عن ديمقراطية نزيهة سيبقى مجرّد شعار يُكتب بالحبر الأسود ذاته الذي يُموّل الانتخابات.