تلوث العاصمة يتضاعف 200% خلال 15 عاما

الهواء في بغداد أخطر من السلاح:

موصل تايم

لم يعد ما يخيم فوق بغداد مجرد غبارٍ موسمي، بل غلاف من السموم اليومية التي تتكاثف بين عوادم السيارات ودخان المولدات وروائح الكبريت المنبعثة من المعامل والحقول النفطية. المدينة التي وُلدت على ضفاف الماء باتت اليوم تتنفس هواءً يرهق صدور سكانها العشرة ملايين، وتتصدر مؤشرات التلوث في العالم وفق بيانات منصة IQ Air، فيما تتحول التحذيرات البيئية إلى بيانات متكررة لا تلامس جوهر الأزمة.

يؤكد مرصد العراق الأخضر أن تلوث أجواء العاصمة لم يعد طارئًا بل نتيجة تراكم ثلاثيّ الأبعاد: معامل طابوق وأسفلت تعمل بلا ترخيص بيئي وتستخدم وقودًا رديئًا، وعمليات حرقٍ متواصلة للنفايات داخل الأحياء ومن حولها، وظروف جوية ساكنة تُبقي الملوثات عالقة فوق رؤوس الناس. وبينما يكتفي بعض المسؤولين بنصيحة “غلق الشبابيك ولبس الكمامات”، تتفاقم معدلات التلوث حتى صارت بغداد “المدينة الأولى عالميًا” في مؤشرات التلوث المتحركة، بحسب المرصد.

ويضيف التقرير الذي حصل عليه راديو (موصل تايم)

أن غياب المحاسبة الفعلية للأنشطة الصناعية العشوائية يجعل كل مبادرة بيئية شكلية. فالمعامل المخالفة ما زالت تعمل، والمكبات العشوائية تحترق دون رقابة، فيما لم تُفعّل بعد أي منظومة للرصد الفوري لجودة الهواء.

تتجدد رائحة الكبريت في سماء العاصمة بين فترة وأخرى، وهي في حقيقتها مزيج من عشرين نوعًا من الغازات السامة، بعضها يؤثر في الجهاز العصبي مباشرة. ويقول مختصون في المرصد إن هذه الرائحة تنبعث أساسًا من معامل الإسفلت والوقود الثقيل ومحطات الكهرباء القديمة، إضافة إلى مطامر النفايات التي تتفاعل حراريًا وتطلق غازات الكبريت والهيدروجين.

ويُظهر تحليل بيئي أن استمرار هذا النمط من الانبعاثات جعل هواء بغداد الأعلى تركيزًا بثاني أوكسيد الكبريت مقارنة بباقي المحافظات، في وقت تتراجع فيه المساحات الخضراء ويزداد عدد المولدات الأهلية التي تستهلك وقودًا عالي الكبريت.

وفي موازاة هذا الواقع، حذّر النائب علي سعدون من بقاء مشروع “الصناديق الخضراء” حبيس الأدراج. المبادرة، التي طُرحت قبل عام لإنشاء صناديق تموّل مشاريع خدمية وإنسانية في المناطق المحيطة بالحقول النفطية، تهدف إلى تخفيف الكارثة البيئية والصحية التي تضرب محافظات الجنوب والفرات الأوسط.

يقول سعدون إن ملايين المواطنين يعيشون في محيط الحقول وسط انبعاثات خانقة وأمراض سرطانية متزايدة، وإن “الصناديق الخضراء قادرة على خلق تحول حقيقي عبر إنشاء أحزمة خضراء، وتوفير مياه شرب نظيفة، وفرص عمل، ومراكز طبية لمعالجة المتضررين”. لكن حتى اليوم، بقي المشروع بلا تمويل فعلي، فيما يصف ناشطون بيئيون هذه الصناديق بأنها “أمل مؤجل في بيئة لا تُنقذها لجان موسمية”.

لجنة الخدمات والإعمار النيابية من جهتها، كشفت عن إزالة نحو 70% من “الغيوم السوداء” التي كانت تغطي سماء بغداد، بعد تنفيذ أكثر من 500 عملية تفتيش في ضواحي العاصمة خلال العامين الماضيين.

وأوضح النائب باقر الساعدي في حديث لـ”موصل تايم” أن نسب التلوث تضاعفت خلال الخمسة عشر عامًا الأخيرة بمعدل يقارب 200% مقارنة بما قبل 2003، بسبب انتشار الورش العشوائية لإعادة تدوير المواد بطرق بدائية، ما أدى إلى انبعاث كميات كبيرة من المواد السامة التي شكّلت غيوماً سوداء سيطرت على أجواء العاصمة.

وأكد الساعدي أن “الجهود الأمنية والبيئية ما زالت محدودة، وأن بعض المعامل التي أُغلقت عادت إلى العمل لاحقًا بسبب غياب المتابعة الميدانية”، داعيًا إلى “وضع خطة دائمة لا مؤقتة لتنظيف سماء بغداد من الانبعاثات”.

اقتصاديا، يرى مستشار رئيس الوزراء مظهر محمد صالح أن التلوث البيئي لم يعد ملفًا بيئيًا فقط بل اقتصاديًا أيضًا، موضحًا أن “البيئة النظيفة هي استثمار طويل الأمد في صحة المجتمع واقتصاده، وكل دولار يُنفق على الهواء النظيف يوفر أضعافه في كلفة العلاج والإنتاجية المهدورة”.

ويؤكد صالح أن “العراق بحاجة إلى استراتيجية اقتصادية خضراء تشمل إطلاق قروض منخفضة الفائدة لاستبدال المركبات القديمة، ودعم مشاريع النقل الكهربائي والطاقة المتجددة، باعتبارها ركيزة للاستدامة البيئية والنمو الاقتصادي معًا”.

الخبير البيئي أحمد الساعدي يقول إن السيارات القديمة والمتهالكة تمثل المصدر الأبرز لتلوث الهواء في بغداد، إذ تطلق كميات هائلة من أول أوكسيد الكربون وأكاسيد النيتروجين نتيجة المحركات غير المطابقة للمعايير الحديثة. ويشير إلى أن غياب الفحص الدوري يجعل العاصمة تستقبل يوميًا آلاف الأطنان من الغازات السامة، فيما تفتقر الجهات الرسمية إلى قاعدة بيانات دقيقة تحدد المركبات المخالفة.

دراسة صادرة عن مرصد العراق الأخضر تفيد بأن عوادم المركبات مسؤولة عن أكثر من 60% من ملوثات العاصمة، وأن التلوث لا يرتبط بالسيارات فقط، بل يتشابك مع المولدات الأهلية وحرق النفايات والانبعاثات الصناعية، وسط غياب منظومة وطنية فعالة لمراقبة جودة الهواء.

تشير تقارير وزارة الصحة إلى أن مستويات الجسيمات الدقيقة في بغداد تتجاوز الحدود الآمنة بأكثر من عشرة أضعاف، وأن أمراض الربو والتهاب القصبات المزمنة ارتفعت بنسبة 30% خلال السنوات الأخيرة. كما يقدّر معهد التخطيط الحضري الخسائر الاقتصادية الناتجة عن تلوث الهواء بنحو أربعة مليارات دولار سنويًا بسبب الأعباء الصحية وتراجع الإنتاجية.

ويقول اختصاصيون في الأمراض الصدرية إن “استنشاق هواء بغداد يعادل تدخين علبة سجائر أسبوعيًا”، بينما تحوّلت المدارس الواقعة قرب الطرق المزدحمة إلى بؤر لتفاقم الأمراض التنفسية بين الأطفال.

يؤكد مختصون أن المشكلة لا تكمن فقط في حجم الانبعاثات، بل في غياب بنية مؤسساتية قادرة على إدارتها. فوزارة البيئة ما زالت تعتمد على أجهزة قياس متقادمة، ومشروع الفحص البيئي للمركبات مجمد منذ سنوات. ويقترح الخبراء إنشاء هيئة وطنية مستقلة لقياس التلوث ونشر النتائج للرأي العام بشكل دوري، معتبرين أن الشفافية البيئية جزء من الحق في الحياة.

علم الاجتماع يرى أن الأزمة لا تُختصر بالسياسات فقط، بل بثقافة عامة تتسامح مع التلوث. فالمجتمع الذي لا يرى في دخان المولدات أو حرق النفايات جريمة، لن يقف ضده. ولهذا يدعو الأكاديميون إلى إدماج التربية البيئية في المناهج المدرسية وتحويلها إلى سلوك جماعي دائم.

بين رائحة الكبريت ودخان السيارات، تتقاطع الأسباب لتصنع واقعًا بيئيًا خانقًا يعكس خللاً في الإدارة والسياسة والوعي معًا. بغداد اليوم لا تحتاج إلى بيانات موسمية أو لجان طوارئ، بل إلى خطة وطنية شاملة تتعامل مع البيئة كقضية أمنٍ وصحة واقتصاد. فكل دقيقة من التأخير في مواجهة هذا التلوث، تُكلّف المدينة نسمة هواء نظيفة… وحياة أخرى تضيق صدرها في انتظار الشهيق، بحسب مراقبين.

Leave a Comment