موصل تايم

تشهد الساحة السياسية العراقية حالة ترقب واسعة بعد الانتخابات البرلمانية، مع تزايد النقاشات حول مستقبل الدور الإيراني في البلاد، وحدود قدرته على الحفاظ على موقعه التقليدي في ظل المتغيرات الإقليمية والدولية.

إيران، التي مثلت منذ عام 2003 أحد أبرز مراكز التأثير في القرار العراقي، تواجه اليوم واقعاً مختلفاً؛ أدواتها السياسية لم تعد كما كانت، والضغوط الأمريكية تتصاعد، فيما تتنامى داخل العراق الدعوات إلى تحييد التأثيرات الخارجية والالتزام بسيادة القرار الوطني.

في هذا السياق، نشر موقع المونيتور الأمريكي تقريراً مطولاً أشار فيه إلى أن طهران تمرّ بمرحلة إعادة تموضع سياسي، بعد أن فقدت جزءاً من نفوذها التقليدي في بغداد، نتيجة التحولات الإقليمية وتراجع فاعلية حلفائها في الداخل العراقي. التقرير خلُص إلى أن نتائج الانتخابات قد تكون عاملاً حاسماً في تحديد موقع إيران داخل المعادلة العراقية الجديدة.

أوضح التقرير أن طهران، التي كانت لسنوات تمتلك القدرة على توجيه المشهد السياسي في بغداد، تواجه الآن تراجعاً في مكاسبها نتيجة الانقسامات داخل القوى الشيعية والضغوط الأمريكية المتزايدة.

لكن قراءة واقعية للمشهد تشير إلى أن هذا التراجع لا يعني فقدان النفوذ بالكامل، بل انتقاله من المسار السياسي المباشر إلى مسارات أخرى أكثر مرونة، أبرزها الاقتصاد والطاقة والتجارة الحدودية. فعلى الرغم من تقلص قدرتها على التأثير في تشكيل الحكومات، ما زالت إيران تحتفظ بحضور اقتصادي يجعلها شريكاً أساسياً في ملفات حيوية، خصوصاً في مجال الغاز والكهرباء.

لفت تقرير المونيتور إلى أن كلًّا من الولايات المتحدة وإيران تتابعان التطورات في العراق عن قرب، وسط تنافس واضح على النفوذ. وتشير التقديرات إلى أن النفوذ الأمريكي في الوقت الحالي يعتمد على الضغط السياسي والدبلوماسي، بينما ترتكز قوة طهران على شبكة نفوذ تراكمت خلال عقدين داخل المؤسسات الرسمية وغير الرسمية. هذا التوازن لا يزال هشّاً، إذ لم تعد أي من القوتين قادرة على حسم التأثير الكامل، ما يجعل العراق ساحة إدارة نفوذ لا ساحة هيمنة مطلقة.

أشار التقرير إلى أن نبرة إيران السياسية والإعلامية بدت أكثر هدوءاً خلال الانتخابات الأخيرة، في تباين واضح مع الخطاب السابق الذي اتسم بالثقة والنفوذ. ويرى مراقبون أن هذا الهدوء يعكس تحوّلاً في طريقة إدارة طهران لعلاقاتها مع بغداد، إذ تميل حالياً إلى سياسة التفاهم والتنسيق بدلاً من فرض الإرادة. ويبدو أن القيادة الإيرانية باتت تدرك أن المشهد السياسي العراقي أكثر تعقيداً من أن يُدار بقرارات أحادية، خصوصاً بعد تصاعد الشعور الوطني واستقلالية القرار الحكومي.

تناول التقرير ملف الفصائل الشيعية، مشيراً إلى أن طهران لم تعد قادرة على توحيدها كما في السابق. وتؤكد المتابعات أن هذه الملاحظة دقيقة جزئياً، فالفصائل أصبحت أكثر استقلالاً في قراراتها، لكن إيران ما تزال تمتلك قنوات اتصال فاعلة معها. التغيير الأساسي يكمن في طبيعة العلاقة؛ من “الوصاية السياسية” إلى “التنسيق المرحلي”، وهو ما يعكس تحوّل طهران من دور الضامن إلى دور الشريك.

أشار المونيتور إلى أن العراق يمثل منفذاً اقتصادياً حيوياً لإيران، خاصة في ظل استمرار العقوبات الأمريكية. وتُظهر المؤشرات الاقتصادية أن العلاقات الثنائية في مجالات الغاز والكهرباء والتبادل التجاري أصبحت متشابكة بدرجة تجعل من الصعب الفصل بين الجانبين. وبحسب خبراء اقتصاد، فإن أي حكومة عراقية مقبلة ستضطر للحفاظ على هذا التوازن لضمان استقرار السوق المحلية وتجنب أزمات طاقة أو واردات.

أشار التقرير إلى تصاعد الضغوط الأمريكية لإعادة هيكلة دور الفصائل المسلحة داخل العراق. ورغم أن هذه الخطوات تحظى بدعم من بعض القوى السياسية، فإنها تواجه تحديات واقعية، إذ إن جزءاً من تلك الفصائل مدمج ضمن مؤسسات الدولة. حتى الآن، نجحت واشنطن في تضييق نطاق حركة بعض الجماعات، لكن من دون تغيير فعلي في ميزان القوة على الأرض.

تطرق التقرير إلى حالة الانقسام داخل الإطار التنسيقي الشيعي، واصفاً إياه بأنه يواجه استياءً متزايداً بسبب الأداء السياسي والاقتصادي. تقديرات المراقبين تشير إلى أن الإطار ما زال الكتلة الشيعية الأكبر والأكثر تنظيماً، لكنه بات إطاراً لتقاسم النفوذ لا لإنتاج رؤية سياسية موحدة، ما يضعف قدرة طهران على ضبط إيقاعه كما في الماضي.

يرى التقرير أن إيران انتقلت من مرحلة الإملاء المباشر إلى التفاهم والتفاوض مع القوى العراقية. ويُعد هذا التحول مؤشراً على نضج سياسي في التعامل مع بغداد، إذ أدركت طهران أن الحفاظ على المصالح يتطلب المرونة لا الفرض. هذه المقاربة الجديدة تتيح لإيران البقاء لاعباً مؤثراً، لكن بآليات أكثر دبلوماسية وهدوءاً.

اختتم المونيتور تقريره بالقول إن ما كان يوماً نفوذاً مطلقاً أصبح اليوم صراعاً على البقاء. ورغم أن هذا التوصيف يعبّر عن ملامح التحول الراهن، فإن الواقع يشير إلى أن النفوذ الإيراني لم ينكسر بل تغيّرت أدواته. العلاقة بين بغداد وطهران دخلت مرحلة توازن واقعي، فالأولى لم تعد ساحة مفتوحة للهيمنة، والثانية لم تعد تملك السيطرة الكاملة. إيران اليوم أقل حضوراً في السياسة، لكنها أكثر تأثيراً في الاقتصاد، فيما يسعى العراق إلى ترسيخ استقلاله من دون خسارة شريكه الجغرافي الأهم.

Leave a Comment