موصل تايم
عاد ملف الدين العام إلى الواجهة بعد ظهور تضارب واضح بين تقديرات وزارة المالية وبيانات البنك المركزي، وهو تضارب أثار موجة تساؤلات واسعة ودفع الخبير الاقتصادي نبيل المرسومي إلى الدعوة لتوضيح رسمي واعتذار للجمهور. جوهر المشكلة بدأ حين أعلنت وزيرة المالية أن حجم الدين الخارجي، بشقيه الفعال وغير الفعال، يبلغ ثلاثة وأربعين مليار دولار، في وقت تنشر فيه الجهة النقدية الأعلى في البلاد رقما مختلفا تماما يصل إلى أربعة وخمسين ملياراً وتسعمئة وسبعة وخمسين مليون دولار حتى نهاية حزيران 2025. الفارق بين الرقمين ليس تفصيلاً ولا يمكن التعامل معه كاختلاف محاسبي بسيط، بل كفجوة تعكس اضطراباً في منهجية عرض البيانات المالية، ما يجعل الرأي العام أمام سؤال مباشر: أي الطرفين يقدّم الحقيقة؟
في محاولة لفهم الصورة الأعمق، وفي حديث سابق لـ”موصل تايم”، قدم مستشار رئيس الوزراء للشؤون المالية مظهر محمد صالح رؤية مختلفة توضح بنية الدين أكثر مما توضح حجمه. فبحسب صالح، فإن ما يسمى بالديون الخارجية الواجبة السداد فعليا لا يتجاوز ثلاثة عشر مليار دولار، وأن نصف هذا المبلغ مؤجل إلى ما بعد عام 2028. ويؤكد صالح أن العراق لم يتخلف يوماً عن سداد أي التزام، بفضل تنسيق مالي وفني مستمر بين وزارة المالية والبنك المركزي، ما يعني أن قدرة الدولة على الوفاء ليست موضع نقاش.
لكن التعقيد الحقيقي يكمن في وجود ما يقرب من أربعين مليار دولار من الديون العائدة للنظام السابق، وهي ديون ترتبط بتمويل الحرب العراقية الإيرانية ولم تُستخدم في التنمية، وتوصَف في الأعراف الدولية بأنها “ديون بغيضة”. هذه الديون مجمّدة عملياً ولا تتحمل الحكومة الحالية مسؤولية سدادها، كما أنها خاضعة لاتفاقية نادي باريس لعام 2004 التي أُطفئت بموجبها ثمانون في المئة فما فوق من ديون ما قبل 2003. وهنا يصبح مفهوماً أن يظهر الدين الخارجي في تقارير البنك المركزي أعلى مما تظهره تقديرات وزيرة المالية، لأن الأولى تتعامل مع الدين المسجّل دولياً، بينما تعتمد الثانية معيار الديون الفعلية القابلة للسداد فقط.
أما الدين الداخلي، الذي يبلغ واحداً وتسعين تريليون دينار، فيوضح صالح أنه موجود بمعظمه داخل الجهاز المصرفي الحكومي وأن جزءاً أقل من النصف موجود في محفظة البنك المركزي، وأن هذا الدين مُدار فنياً بصورة لا تخلق أي تهديد مالي. ويضيف أن لجاناً متخصصة أتمت خطة لتحويل أكثر من عشرين تريليون دينار من الدين الداخلي إلى أدوات استثمارية إنتاجية ضمن برنامج وطني جديد لإدارة الدين، يقوم على تحويل الالتزامات الورقية إلى مشاريع اقتصادية حقيقية تولّد نمواً وتقلل العبء عن المالية العامة.
وتشير البيانات الاقتصادية إلى أن نسبة مجموع الديون إلى الناتج المحلي الإجمالي لا تتجاوز ثلاثين في المئة، وهي نصف المعيار العالمي الآمن البالغ ستين في المئة، فيما يمتلك العراق احتياطيات نقدية لدى البنك المركزي تتجاوز مئة مليار دولار، وهي كافية لتغطية الدين الخارجي أضعافا، ما يعني أن الحديث عن مخاطر المديونية لا يستند إلى أساس اقتصادي، بل يظهر غالباً في سياقات سياسية وانتخابية أكثر مما يظهر في سياق مالي موضوعي.
وبحسب مراقبين، في الصورة النهائية يبدو واضحاً أن المشكلة ليست في حجم الدين، بل في ازدواجية خطاب الدولة حوله. فبين أرقام وزارة المالية التي تحتسب الدين الفعلي القابل للسداد، وأرقام البنك المركزي التي تسجل الدين الكامل بما فيه المجمد والبغيض، تبرز فجوة في اللغة المالية تحتاج إلى إعادة ضبط وتوحيد. هذا التباين هو ما دفع المرسومي للتحذير، وهو ما يفرض على الجهات المعنية كشف الأساس المحاسبي لكل رقم، توحيد منهجية الإعلان، وتقديم تفسير يبدد الشكوك المتراكمة لدى الجمهور.
