في مشهد يعكس عمق الأزمة الاجتماعية والاقتصادية، باتت الغالبية من أبناء المجتمع العراقي محاصرة في دائرة ضيقة لا تتجاوز “لقمة العيش”. انحصر التفكير بالحفاظ على الوظيفة الحكومية، حتى أصبحت الوظيفة بحد ذاتها أداة ضغط، تمنح وتُمنع وفق مزاج من يعتقد أنه “صاحب الفضل”. المواطن الذي كان يرى نفسه شريكاً في الوطن، تحوّل إلى متلقٍّ يخشى خسارة مصدر رزقه، فانخفض سقف طموحاته إلى الحد الأدنى.

هذا الواقع انعكس بوضوح على العملية الانتخابية الأخيرة؛ إذ حصل معظم الفائزين على أصواتهم عبر ثلاث آليات لا تخطئها العين:

أولاً: منتسب قدّم صوته وصوت عائلته، وربما اشترى أصواتاً قليلة، ليرتفع مجموع ما جمعه إلى 10 أو 16 صوتاً.
ثانياً: آخر صوّت بدافع “رد الجميل” لمن أوحى له بأنه صاحب الفضل في تعيينه الوظيفي، فكان الولاء على شكل ورقة اقتراع.
ثالثاً: شراء الأصوات الذي أصبح جزءاً من المشهد، ولو جرت عملية فرز حقيقية لإزالة تأثيره لما بقي لكثير من المرشحين إلا القليل جداً.

في المقابل، هناك من خاض الانتخابات دون أن يطلب منّاً ولا وظيفة ولا خدمة، ودون أن يستغل نفوذاً أو جاهاً. هناك من آمن بأن المشاريع لا تُبنى بالتذكير بالفضل، بل بالعمل الفعلي. ولو نُشرت قائمة الإنجازات والخدمات التي قُدّمت بلا مقابل، لكان لأصحابها حق حتى على بعض المرشحين أنفسهم، لا على الناخبين فقط. لكن من يؤمن بالمشروع لا يتاجر بعمله، ولا يذكّر الناس بما قدّمه لهم.

سقف الطموح يعود إلى “الطعام”… هل عدنا إلى العصر البدائي؟

حين يصبح المواطن مضطراً للتصويت خوفاً على وظيفته أو أملاً بالحصول عليها، نكون قد عدنا فعلاً إلى منطق الإنسان البدائي الذي كان هاجسه الأول هو الطعام. المفارقة المؤلمة أننا نقول هذا في القرن الحادي والعشرين، بينما العالم يناقش الذكاء الاصطناعي، والطاقة المتجددة، والتعليم المتقدم، وصناعات الفضاء.

طرحنا مشاريع اقتصادية وتنموية وتعليمية وصحية؛ أفكاراً ربما يراها البعض “خيالاً” لأن عقول الناس شُغلت بحاجتها الأساسية: الطعام. من أعمق اللحظات التي عكست هذا الواقع كانت تلك التي جاء فيها الأطفال ببراءتهم يسألون عن المستقبل، فكان جواب معظمهم: “أريد أن أصبح ضابطاً”.
لم تعد الأحلام تتجاوز بوابة الوظيفة الحكومية… وكأن العراق لم يعد يرى في أبناءه سوى جنود وموظفين.

اقتصاد يترنح… ومجتمع بلا رؤية

ما نريده هو عراق متطور في الصناعة والزراعة والتجارة، عراق يملك اقتصاداً حقيقياً يوفر وظائف منتِجة لا وظائف شكلية. لكن الوقت لم يكن كافياً وسط حملة تجهيل واسعة جعلت العراق من أكثر الدول فساداً وتخلفاً، وخلقت جيشاً من مئات آلاف الخريجين العاطلين بلا فرص.

وبينما تنوّع الدول اقتصادها، يتراجع اقتصادنا حتى أصبح أقل من 25% من الاقتصاد السعودي.

نسأل بأسف:
أين خريجو البعثات العراقية؟
ما هي اختصاصاتهم؟
وماذا قدموا بعد العودة؟

وفي الوقت الذي تعلن فيه السعودية عن نيتها استثمار 50 مليار دولار في شراء أشباه الموصلات، لا نرى في العراق نواة حقيقية لقطاع تكنولوجي. أما الأمن الغذائي، فقد فضحته الأزمات: من كورونا إلى الحرب الروسية–الأوكرانية. دول أخرى بلا أراضٍ زراعية ضمنت غذاءها بشراء أراضٍ في قارات أخرى، بينما نحن نواجه كل أزمة على حافة الاضطراب.

العالم ضاعف استثماراته في الأمن الغذائي بعد الدروس القاسية… ونحن لا نزال بلا خطوات واضحة، ولا بخطة رقمية واحدة توحي بوجود استعداد لأي جائحة أو حرب عالمية جديدة.

تحوّل الحكم من إرادة الشعب إلى نفوذ المال السياسي

من المؤسف أن الحكم في العراق لم يعد تعبيراً عن إرادة شعب، بل أصبح انعكاساً لقوة المال السياسي: شراء وترهيب وتجييش. ولهذا تلاشى الحديث الجاد عن الاقتصاد، أو التعليم، أو الصحة، أو الرؤية المستقبلية. فالمال الذي يشتري الأصوات لا يهتم ببناء دولة، بل بإعادة إنتاج سلطته.

ختاماً: أي عراق نريد؟

نريد عراقاً يعيش فيه الإنسان بكرامة، يحصل فيه الطفل على تعليم حقيقي، والخريج على وظيفة منتجة، والمجتمع على أمن غذائي واستقرار اقتصادي. نريد دولة تُدار برؤية، لا بمزاد الأصوات. تنمية، لا تجهيل. وظائف، لا منّة.

العراق يملك الإمكانات… لكنه يحتاج إلى شجاعة مواجهة الواقع، وإلى مشروع لا يشترى بالمال ولا يُرهن للوظيفة، بل يضع الإنسان في مركز المعادلة، كما يجب أن يكون.

Leave a Comment