موصل تايم

تتحرك الأنظار في بغداد نحو زيارة توم باراك التي جاءت في لحظة إقليمية مشحونة بالتوترات والتفاهمات المتقابلة، إذ دخل المبعوث الأمريكي الخاص إلى سوريا العاصمة العراقية وهو يحمل ملفاً مترابطاً يتصل بحدود العراق الغربية ومسار الأزمة السورية واتجاهات الضغوط الأمريكية على لبنان، في وقت تتصاعد فيه الإشارات الصادرة من واشنطن عبر مبعوث الرئيس ترامب مارك سافايا الذي أعلن أن مرحلة الأفعال لا الأقوال بدأت، ما جعل زيارة براك تُقرأ كجزء من سياق أوسع يتشكل في محيط العراق ويتقاطع مع حسابات عسكرية وسياسية تتحرك بسرعة تفوق قدرة العواصم على إظهار ما يجري أمام العلن.

ومع دخول باراك إلى بغداد بدا واضحاً أن الولايات المتحدة تعيد فتح المسار السوري من البوابة العراقية، ليس بوصف العراق نقطة عبور لوجستية فحسب، بل باعتباره طرفاً محورياً في إدارة التوازنات بين دمشق وبيروت وتحديد شكل الحركة الميدانية على الحدود الشرقية، إذ تشير معطيات اللقاءات التي جرت بين براك ورئيس الوزراء محمد شياع السوداني إلى أن واشنطن تريد تثبيت قواعد اشتباك جديدة تحمي حدود العراق من أي ارتدادات أمنية على الجانب السوري، وتمنع في الوقت ذاته انزلاق ملفات لبنان نحو تأثير مباشر على الداخل العراقي، خاصة في ظل وجود ارتباطات معلنة وغير معلنة بين بعض الفصائل العراقية وحزب الله.

وتعكس طبيعة الملفات التي حملها براك رغبة أمريكية في اختبار قدرة بغداد على لعب دور مزدوج، الأول يتعلق بخلق قنوات مستقرة مع القيادة السورية الجديدة لضمان عدم توسع الفراغ الأمني على امتداد الحدود التي تتجاوز ستمئة كيلومتر، والثاني يتمثل في احتواء انعكاسات المشهد اللبناني على البيئة السياسية العراقية، خصوصاً بعد تزايد الحديث في الدوائر الغربية عن ضرورة إعادة هيكلة النفوذ المسلح في لبنان وتقييد قدرات حزب الله العسكرية، وهي مهمة لا يمكن تنفيذها من دون قراءة دقيقة لردود الفعل التي قد تصدر عن الجهات الحليفة للحزب داخل العراق.

وتزامنت زيارة باراك أيضاً مع حراك أمريكي موازٍ يقوده مبعوث الرئيس ترامب مارك سافايا الذي رفع سقف الرسائل الموجهة إلى بغداد عندما تحدث عن تغييرات كبيرة سيشهدها العراق قريباً، مؤكداً أن الزمن القادم سيكون زمن تنفيذ وليس زمن بيانات، وهو تصريح أثار أسئلة حول مدى ارتباط هذه الاندفاعة الأمريكية بالمتغيرات التي تشهدها الجبهات المحيطة بالعراق، سواء في الحدود السورية التي تشهد ترتيبات أمنية غير معلنة، أو في لبنان الذي يقترب من مرحلة تفاوضية حادة بين القوى الإقليمية والدولية.

ومع اتساع رقعة التفسير داخل بغداد حول معنى هذه الزيارات المتتابعة، بدأت مقاربات جديدة تظهر في أوساط الخبراء الأمنيين، كان أبرزها ما طرحه الخبير صادق عبد الله في حديثه لـ”موصل تايم” حين أشار إلى أن وصول باراك إلى العاصمة العراقية لم يكن خطوة بروتوكولية معزولة، بل تحركاً منظماً يستهدف، في آن واحد، إعادة تقييم أمن الحدود العراقية-السورية الممتدة لمسافات شاسعة، وفتح مسار تنسيق مباشر مع القيادة السورية الجديدة من أجل تثبيت استقرار المناطق المحاذية للعراق، وتزويد بغداد بقراءة أمريكية محدثة حول المشهد اللبناني على خلفية الضغوط المتصاعدة على حزب الله، إضافة إلى منع انخراط أي أطراف عراقية في التعقيدات اللبنانية عبر طمأنة الحكومة العراقية بأن واشنطن تدير الملف من زاوية تمنع انتقال الارتدادات إلى الداخل العراقي، وهو ما يلخص، بحسب عبد الله، جوهر الأهداف الأربعة التي حملها براك معه في هذه الزيارة.

ويبدو أن بغداد تواجه اليوم امتحاناً أكثر تعقيداً مما يظهر في الواجهة، فالمشهد الإقليمي الذي يتحرك من حولها بسرعة غير مألوفة يجعلها أمام مسؤولية صياغة رؤية سياسية واضحة تحافظ على مصالحها وتمنع زجها في حسابات لا تريد الانخراط فيها، خاصة مع تزايد الحديث في العواصم المؤثرة عن تحولات كبرى قد تطال بنية النفوذ المسلح في سوريا ولبنان، وتغير شكل حضور الفصائل في العراق، وتعيد ترتيب العلاقة بين بغداد ودمشق وبيروت تحت سقف تفاهمات جديدة قد لا يكون الجانب العراقي طرفاً مباشراً في صناعتها، لكنه سيكون بالتأكيد أحد أهم المتأثرين بنتائجها.

Leave a Comment