موصل تايم

برزت في بغداد موجة مقلقة تتعلق بمحاولات الاستحواذ على أراضٍ عامة تعود ملكيتها لوزارة الأوقاف أو لأمانة العاصمة، عبر استخدام إجراءات قانونية ظاهرية تمنح المتنفذين القدرة على استعادة أراضٍ كانت الدولة قد استملكتها قبل عام 2003، رغم حصول أصحابها الأصليين على التعويض الكامل حينها. هذه الظاهرة لم تعد مجرد خلافات عقارية، بل باتت تهدد حرمة الجوامع والمساجد، وتضغط على المناطق الحيوية في العاصمة، وتثير مخاوف من تفريغ الملكية العامة لصالح مصالح فردية وسياسية متشابكة.

وتشير مصادر محلية في بغداد إلى أن الأراضي التابعة لجامع الخير في حي الجامعة باتت هدفاً لمحاولات منظمة للهيمنة عليها “تحت غطاء قانوني”، ما دفع الأهالي لتنظيم وقفة احتجاجية يوم غد، وسط حديث عن استعدادات لـ”خطوات تصعيدية” إذا لم تتدخل الجهات الرسمية. ويؤكد سكان المنطقة أن الإجراءات اتخذتها “جهات نافذة” تستند إلى دعاوى قديمة تعود لمرحلة ما قبل 2003، رغم أن ملكية الأرض انتقلت قانونياً إلى الدولة، وتم تعويض أصحابها بشكل رسمي.

هذه ليست حالة فردية. فملف جامع أم الطبول مثالاً صارخاً لاستخدام هذا النوع من المطالبات لاستعادة أراضٍ استراتيجية رغم كونها جزءاً من أملاك الأوقاف. ورغم حساسية المكان وطبيعته الدينية، شهد محيط المسجد توزيعاً لقطع أراضٍ على مسؤولين ودرجات خاصة، في سابقة عكست قدرة النفوذ السياسي على تجاوز الغطاء الديني والقانوني على حدّ سواء.

كما برزت خلال السنوات الماضية واقعة أخرى شديدة الدلالة، تمثّلت في السيطرة على مايسمى(الجامع الكبير) في منطقة المنصور، والذي انتقلت ملكيته وإدارته إلى جهة حزبية نافذة خارج الأطر القانونية، ما رسّخ المخاوف من توسّع نفوذ القوى المتحكمة في ملف الأملاك الوقفية وتحويله إلى أداة للتمدد العقاري والسياسي.

ويشير مختصون في شؤون التخطيط العمراني إلى أنّ القانون العراقي بعد 2003 لم يضع إطاراً واضحاً يقطع الطريق أمام إعادة فتح ملف الأملاك المستملكة قبل سقوط النظام السابق، وهو ما استغلته قوى وأفراد لإعادة تقديم دعاوى ملكية “منتهية أصلاً” بحكم التعويض. وتقول هذه الجهات إن “الحيازة القديمة” تُستخدم اليوم كأداة لانتزاع أراضٍ تابعة للدولة، خصوصاً تلك الواقعة في مواقع حساسة أو ذات قيمة تجارية عالية.

أما الخطر الأبرز، فيتمثل في أن هذا النمط من إعادة الإحياء القانوني خلق سوقاً غير معلنة للنفوذ، تستعمله جهات سياسية واقتصادية لاستعادة أملاك لا يحق لها استعادتها، عبر الضغط على الأوقاف أو البلديات، أو عبر استغلال ثغرات إجرائية في التسجيل العقاري والمحاكم المدنية.

ويحذّر مختصون من أنّ استمرار هذه الظاهرة سيؤدي إلى تفريغ الملكية العامة، وإضعاف قدرة الدولة على حماية الجوامع والمدارس والحدائق، وهي المناطق التي تُعد من أكثر الأملاك استهدافاً خلال المرحلة الماضية. وتشير تقارير داخلية إلى تسجيل عشرات المحاولات للاستحواذ على حدائق عامة ومساحات تابعة لأمانة بغداد، بعضها نجح بسبب التهاون الإداري أو الدعم السياسي المباشر.

ويقول مراقبون إن “الأوقاف الدينية أصبحتا تحت ضغط متزايد، بسبب دعاوى استعادة أراضٍ محيطة بالجوامع، الأمر الذي قد يؤدي إلى تقليص محيطها العمراني أو عرقلة توسعتها المستقبلية، وهو ما يعتبره رجال الدين “مساساً خطيراً بحرمة بيوت الله”.

ومع تصاعد هذه الحالات، يجد الأهالي أنفسهم في مواجهة معقدة: من جهة، جهات نافذة تمتلك قدرة قانونية وإدارية على تحريك الملفات، ومن جهة أخرى، دولة عاجزة عن فرض حماية شاملة للأملاك العامة والدينية، بسبب ما يصفه مختصون بـ”تشظّي القرار الإداري” و”تعدد مراكز القوة بعد 2003″.

الملف اليوم لم يعد مجرد نزاع عقاري؛ بل اختبار لهيبة الدولة، وقدرتها على فرض سيطرتها على المساحات العامة ومنع تحويلها إلى ممتلكات خاصة بضغط النفوذ. ويجمع المختصون على أن معالجة الظاهرة تتطلب تشريعاً يوضح بشكل قاطع أن الأملاك المستملكة قبل 2003، والتي جرى تعويض أصحابها، لا يمكن إعادة المطالبة بها، وأن أراضي الأوقاف لا يجوز المساس بها بأي شكل.

حتى الآن، لا تزال وزارة الأوقاف وأمانة بغداد أمام تحدٍّ مباشر: إما حماية ما تبقى من المجال العام، أو السماح بموجة جديدة من التملك القسري المغلّف بالقانون، وهي موجة إذا استمرت، قد تعيد رسم الخريطة العقارية للمدينة بعيداً عن أي معايير دينية أو اجتماعية أو تخطيطية.

Leave a Comment