موصل تايم

يصعب التعامل مع السؤال المتكرر حول “ما الذي تريده واشنطن في العراق؟” بوصفه سؤالًا بسيطًا يتطلب إجابة مباشرة، لأن طبيعة الخطاب الأمريكي نفسه لم تعد تتحرك وفق رؤية واحدة أو لغة واحدة، بل باتت تتوزع على أربع روايات متباينة في الشكل، متقاربة في الجوهر، تجعل من قراءة الموقف الأمريكي مهمة أكثر تعقيدًا مما تبدو عليه للوهلة الأولى. فالعراق الذي عاش عقدين من الاختبارات السياسية الثقيلة، يجد نفسه اليوم محاطًا بإشارات متناقضة: وثيقة أمن قومي لا تذكره، وموفد رئاسي يتحدث عن “استسلام”، ومبعوث خاص يتحرك بنبرة تنفيذية مرتفعة، وسياسي عراقي مطلع على واشنطن يؤكد أن الولايات المتحدة تعتمد استراتيجية واضحة بثلاث ركائز. وفي خلفية هذه الأصوات كلها، تعمل مؤسسة أمنية أمريكية ترى العراق ضرورة استراتيجية لا تخضع لتقلب المواقف السياسية.

هذا التشابك في الروايات لا يعني غياب الاستراتيجية، بل يشير إلى أن واشنطن تتعامل مع العراق من خلال طبقات متراكمة، تظهر أحيانًا متنافرة لكنها تتحرك في اتجاه واحد: خفض الكلفة، تثبيت النفوذ، احتواء إيران، وإعادة توزيع الأدوار داخل الجغرافيا العراقية دون الدخول في مشروع سياسي جديد.

الرواية الأولى: العراق الغائب في وثيقة الأمن القومي

حين نشر الرئيس دونالد ترامب إستراتيجية الأمن القومي لعام 2025، بدا غياب العراق عن الوثيقة حدثًا لافتًا، ليس لأنه فقد أهميته، بل لأنه لم يعد يُقدَّم بوصفه ملفًا رئيسيًا يتطلب هندسة سياسية أمريكية، بل جزءًا من شبكة ملفات تمتد من أمن الطاقة إلى حماية إسرائيل ومنع عودة الإرهاب. وفي الوثيقة الجديدة، تراجع الشرق الأوسط إلى الهامش، بينما صعدت أولويات تتعلق بالمنافسة مع الصين، والهجرة، وضغوط الاقتصاد الأمريكي الداخلي. ومع ذلك، لم يتراجع حضور العراق في الحسابات الأمنية والاقتصادية، بل أعيد تعريفه ضمن منطق “المصالح التنفيذية” لا “المشاريع الشاملة”.

وبذلك، تحركت السياسة الأمريكية في اتجاه وجود منخفض الكلفة: مستشارون بدل قوات قتالية، ضغط اقتصادي بدل تدخل مباشر، ورهان أكبر على إقليم كردستان باعتباره نقطة الاستقرار الأكثر قدرة على التواصل مع واشنطن دون تعقيدات بغداد. وهذه المقاربة التي تبدو انسحابًا من الملف العراقي، تتحول عند التدقيق إلى صيغة إعادة تموضع أكثر منها تراجعًا فعليًا عن الاهتمام.

الرواية الثانية: الاستسلام المُدار.. نهاية مشروع وبقاء نفوذ

في المقابل، مثّل تصريح الموفد الرئاسي توم براك بأن “ما حدث في العراق هو أننا استسلمنا” لحظة سياسية غير مسبوقة، لأنه قدم اعترافًا مباشرًا بأن واشنطن لم تعد معنية بإعادة بناء النظام السياسي العراقي أو بخوض مواجهة مباشرة مع الفصائل المسلحة. غير أن هذا الاعتراف لا يعكس انسحابًا أمريكيًا، بل نهاية مرحلة معينة من الانخراط، وبدء مرحلة أخرى يُكتفى فيها بمنع الانهيار ومنع إيران من السيطرة الكاملة، دون تحميل الولايات المتحدة كلفة المواجهات المفتوحة.

هذا “الاستسلام” هو استسلام لمفهوم المشروع، لا لمفهوم النفوذ، وهو ما يفسّر خفض القوات، إنهاء مهمة التحالف، وربط الدعم الاقتصادي والسياسي بحماية الشركات الأمريكية واستقرار بيئة الطاقة. فالولايات المتحدة لم تعد تريد إعادة بناء نظام سياسي، لكنها تريد ضمان أن البيئة لن تخرج عن السيطرة، وأن مصالحها الأساسية في العراق لن تصبح رهينة لتقلبات الفصائل أو لإيقاع التوتر الإقليمي.

الرواية الثالثة: ثلاث ركائز تكشف منطق واشنطن الحقيقي

وبينما تتعامل الرواية الأولى مع النصوص، والرواية الثانية مع الخطاب السياسي، تأتي رواية السياسي العراقي المقرب من واشنطن، انتفاض قنبر، خلال حديثه لـ”بغداد اليوم”، لتقدّم قراءة داخلية لا تعلن في العلن لكنها تُناقش بجدية داخل مراكز القرار. فبحسب ما نقله قنبر، تتحرك الاستراتيجية الأمريكية اليوم وفق ثلاث ركائز ثابتة:

تقليص النفوذ الإيراني بشكل تدريجي ومنهجي.
تفكيك دور الفصائل باعتبارها العائق الأكبر أمام الدولة.
ترسيخ دعم استراتيجي لإقليم كردستان كنقطة ارتكاز سياسية وأمنية واقتصادية.

هذه الرواية، التي تعمل كجهد تفسير داخلي للعقل السياسي الأمريكي، لا تتباين مع الروايتين السابقتين، بل تمنحهما منطقًا: فالغياب في الوثيقة لا يناقض عملية تفكيك النفوذ الإيراني، واعتراف براك بالاستسلام لا يناقض دعم كردستان، وتحركات مارك سافايا ليست مبادرات منعزلة بل ذراع تنفيذية لهذه الركائز الثلاث. ولذلك، تصبح رواية قنبر بمثابة الخريطة التي تربط الخطوط المتقطعة وتمنحها اتجاهًا واحدًا.

الرواية الرابعة: المؤسسة الأمنية الأمريكية.. الاستراتيجية التي لا تتبدل

وإذا كانت الروايات الثلاث الأولى تتأرجح بين النصوص السياسية والتقييمات الفردية وشهادات المطلعين، فإن الرواية الرابعة تأتي من مصدر أكثر ثباتًا: المؤسسة الأمنية الأمريكية، التي لا تتغير رؤيتها بتغيّر الإدارات، لأنها تنطلق من اعتبارات استراتيجية ممتدة تتعلق بالجغرافيا والتهديدات والقدرات لا بالمزاج السياسي. فبالنسبة للبنتاغون ووكالة الاستخبارات والقيادة المركزية، العراق ليس ساحة سياسية بل منصة أمنية تتحكم في خطوط الإمداد نحو شرق سوريا، وتوفّر قدرة على مراقبة الحرس الثوري، وتمثل ضمانة مبكرة لأمن إسرائيل وممرًا لعمليات الطوارئ التي لا يمكن للولايات المتحدة أن تفقدها.

هذه المؤسسة، التي ترى في كردستان نقطة الارتكاز الأكثر استقرارًا لإدامة العمل الاستخباراتي، تعتبر الانسحاب الكامل من العراق تهديدًا مباشرًا للمصالح الأمريكية، وتؤمن بأن وجودًا مرنًا منخفض الكلفة – يتراوح بين مستشارين وقدرات جوية واستخباراتية وشبكة قواعد – هو الخيار الوحيد الذي يمنع تكرار تجربة أفغانستان. ولذلك، فإن تغيّر الخطاب السياسي لا يؤثر على هذا الواقع: الولايات المتحدة باقية، ليس بدافع بناء نظام، بل بدافع الضرورة الأمنية.

بين أربع روايات… هدف واحد لا يتغير

عند وضع الروايات الأربع فوق بعضها، تختفي ملامح التناقض وتظهر الخريطة الحقيقية: واشنطن لا تنسحب، لكنها لا تستثمر في مشروع جديد؛ لا تواجه إيران مباشرة، لكنها تمنع هيمنتها؛ لا تبني الدولة العراقية، لكنها تضبط حوافها؛ لا تعتمد على بغداد بالكامل، لكنها ترفع من مكانة كردستان؛ لا تعلن الاستراتيجية، لكنها تنفذها.

وما بين الغياب في الوثيقة، واعتراف “الاستسلام”، وتفسير قنبر، ورؤية المؤسسة الأمنية، يتضح أن الولايات المتحدة تتحرك في العراق وفق معادلة واحدة: نفوذ مستمر بأدنى كلفة ممكنة، وإدارة محكمة للتوازنات دون التورط في إعادة صياغة النظام أو الدخول في مواجهة مفتوحة.

ويبقى السؤال الذي يواجه الطبقة السياسية العراقية ليس: ماذا تريد واشنطن؟ بل: هل يملك العراق استراتيجية مقابلة تمنع تحوله إلى ساحة تتحكم فيها الروايات الخارجية، أم أن القرار سيظل رهينة شبكة الضغوط التي تتشكل فوق الأرض بينما تتبدل لغة الخطاب دون أن يتبدل الاتجاه؟

Leave a Comment